"المقيم" والاضطهاد وجهان لعملة واحدة

يُخيَّلُ إليّ إن كنتَ مقيماً تعمل في السعودية أنك ستومئ برأسك بمجرد قراءتك عنوان المقالة تعبيراً عن موافقتك المطلقة دون تحفُّظ لما يوحي به، وربما جادلتَ بأنه لا ينقل الحقيقة المُرّة كاملة. وقبل أن تسترسل في اجترار حيثيات الصورة القاتمة عن واقع المقيم في السعودية اسمح لي أن أقطع حبل أفكارك لنتفق على مبدأ أساس، يجب أن يسيّر دوماً حكمنا على الأمور، متمثل في أن التعميم والمبالغة في ردة الفعل ليسا الخيار الأمثل في تعاطينا وحكمنا على الأمور.



وقولي - وأعني أنك من بين من يتبنى موقفي المبالغة والتعميم - بذلك استنتجته من موافقتك على ما أوحى لك به العنوان على إطلاقه، وبعد خوضي لنقاشات مطولة، وبعد قراءتي لما يتم طرحه في منتديات الشبكة العنكبوتية، وكذلك ما يكتب في الصحافة، وتحديداً ما يُكتب من تعليقات على أخبار ومقالات تنشرها الصحف السعودية غير الناطقة بالعربية عن حال المقيم في مشهد سوق العمل السعودي.


ومن خلال تتبعي لما يُطرح في المنابر المتعددة الآنفة الذكر أجده في معظمه مُغلَّفاً بعبارات قاسية، ومُصطبغاً بالتعميم المخل، وتعلوه عبارات مبالغ في ردة فعلها. وإليك أمثلة مما اختطه يد بعض الإخوة المقيمين تعليقاً على حادثة تعرضت لها خادمة، قامت بنشرها مؤخراً بعض الصحف: "لعلها تكون نقطة تحول تُظهر للسعوديين فظاعة وشناعة ما يرتكبون في حقنا نحن المقيمين، هذا إن كان لهم قلوب رحيمة، ويخافون الله تعالى". وفي السياق نفسه علَّق آخر بقوله: "إنها فرصة للتشفي من أبناء أمة أطغاها الثراء الفاحش".



ومن العبارات التي تتردد كثيراً حين التعليق على الحادثة هذه ومثيلاتها: "نعاني نحن العاملين من سوء معاملة أرباب أعمالنا السعوديين لنا"، و كذلك "نشعر بالمعاناة الشديدة من قِبل السعوديين عديمي الإحساس والضمير"، و"السعوديون يظنون أنهم فقط هم بنو البشر"، و"التشدق بعبارة إخواننا المقيمين لا تعني سوى عبيدنا"، وأخيراً وليس آخِراً: "يقع على السعوديين عمل الكثير حتى يصلوا إلى أدنى مستويات الإنسانية".


وجوابي الدائم لهذه المواقف من شقين: الأول أنه ليس هناك على وجه البصيرة قاطبة مجتمع مثالي، والتسليم بذلك يقود إلى نتيجة، مؤداها أن جميع الظواهر الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والثقافية، وغيرها من المجالات، موجودة في كل مجتمع، ويبقى الاختلاف فقط في نسبة وجود ممارسة هذه الظاهرة وتلك في بقعة ما.



والجزء الآخر من جوابي أن الطبقة العاملة تُعامَل دوماً بشكل غير لائق في كل مكان في أنحاء العالم بلا استثناء، بل حتى داخل دولهم الأم. ولعله من المعيب أن يُنظر إليهم في كل مكان باعتبارهم طبقة أدنى، وأن أهل البلد التي يعملون فيها يتمنون أن لديهم من القوة، والقدرة، والسلطة لإبعادهم عن بلدهم؛ لأنهم يقتاتون من خيرها، ويحرمون أبناءها من الفرص الوظيفية!
وحتى أختبر مصداقية هذه القناعات الشخصية ذات الشقين حرصت دوماً أثناء زياراتي المتعددة لبلدان عديدة أن أعمل جهدي على الالتقاء والحديث إلى العاملين في تلك البلدان، وكانت النتيجة النهائية التي خرجتُ بها أنهم ليسوا سعداء البتة بطريقة ونوعية المعاملة غير الإنسانية التي يلقونها من مضيفيهم.



وتوصلت من خلال تلك اللقاءات والحوارات المتعددة إلى بناء تصوُّر، مفاده أن المقيمين بشكل عام، والطبقة العاملة بشكل خاص، ينظرون إلى الأمور من منظار سلبي، تختفي معه النظرة الإيجابية تجاه معطيات الأمور في البلد الذي يعملون به، والكثير منهم غير مدرك لحقيقة أن بيئة العمل لا تخلو من مشكلات وسلبيات، وأنها في واقع الأمر ما دفع دول العالم لسن تشريعات وقوانين لتنظيم العلاقة بين العاملين وأصحاب الأعمال، وتحديد حقوق والتزامات كل طرف، ومعالجة المشكلات التي تنشأ بينهما.


والقول بذلك لا يعني البتة أنني غير مقرٍّ ومعترفٍ بالمعاملة اللاإنسانية التي يلقاها الإخوة المقيمون من قِبل بعض أرباب أعمالهم السعوديين، وبخاصة في حق أولئك القادمين من دول العالم الثالث، بل على العكس، قمت بتحرير اعترافي بذلك من خلال كتابة مقالات عدة، شرحت واعترضت بقوة الكلمة فيها على سوء المعاملة التي يلقاها الإخوة المقيمون، وبخاصة الطبقة العاملة والخدم، وفي كل الأطروحات تلك كنت أركز على الاحتراز والابتعاد مسافات عن مسألة التعميم، وقصر النظر حين الحديث عن إشكالية سوء المعاملة التي يلقاها العديد من المقيمين في أرضنا المعطاء.


وإلى جانب الدعوة إلى الابتعاد عن إصدار الأحكام العامة أجد أنه أيضاً يجب التوقف ملياً عند خطأ في معالجة هذه القضية الشائكة، يتمثل في الاقتصار على إبراز جانب واحد فقط من مسألة سوء المعاملة التي يلقاها المقيم على أرض السعودية من قبل أبنائها ومواطنيها؛ فبعض المقيمين لهم دور في تفشي المعاملة غير السوية التي يلقونها؛ وذلك - من خلال تتبع الحالات المثبتة – بسبب أن بعض المقيمين يقومون بمخالفة الأنظمة، واللوائح، ويمارسون أعمالاً لا تتماشى وما سنته السعودية من أنظمة خاصة بالعمل والعمال.



وفي هذا السياق أرى أيضاً أننا نغفل عن أمر مهم آخر، هو أن العديد من المقيمين لدينا غير متعلمين، أو ذوو تعليم محدود؛ وهذا يؤدي بهم إلى القيام بأعمال غير حسنة، تدفع بأرباب أعمالهم إلى القيام بردة فعل قوية تجاه تصرفاتهم غير السوية.


وفي الختام، نود أن نشير إلى أن المعاملة غير الجيدة واللاإنسانية للمقيمين، وبخاصة طبقة العاملين والخدم والسائقين، موجودة بشكل لافت في مشهد سوق العمل السعودي؛ والسبب في حضورها القوي يسهم في تغذيته وترسيخه أطراف عدة، تشمل المقيم نفسه، والمواطن السعودي، أو بالأحرى صاحب العمل السعودي، والمؤسسات السعودية ذات العلاقة بسنّ للأنظمة واللوائح الخاصة المنظمة لعلاقة العاملين غير السعوديين بأصحاب العمل السعوديين.


ومن هنا فهي مسألة تستحق منا التوقف عندها، والبحث عن حلول سريعة لها، وتتطلب القيام بخطوات عملية وواقعية للقضاء عليها، أو على الأقل تحجيمها، ومنطلقنا في ذلك قيم ومُثل عُليا، تحثنا على معاملة كل من يقيم يعمل لدينا معاملة كريمة، وإعطاء كل ذي حق حقه.


ومن يتعاط مع القضية، سواء من موظف، أو عامل مقيم، أو دارس لها، فعليه أيضاً ألا يلتقط حالات فردية، يبني عليها أحكاماً عامة، تصوّر الأوضاع التي يعشها المقيم لدينا بالمأساوية، وألا يغفل الاستماع إلى الجانب الآخر، وألا يتناسى المعاملة الكريمة التي يلقاها الكثير من المقيمين من قبل أرباب العمل السعوديين على المستوى الشخصي والرسمي.




http://sabq.org/Zd1aCd