بوصفي متخصصاً في مجال تعزيز الصحة، أرى أن قرار مجلس الوزراء بالموافقة على إنشاء المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها يمثل استراتيجية وطنية نوعية لوزارة الصحة نحو تعزيز الصحة في مجتمعنا، بل لا أبالغ إذا قلت إنها تُعد المبادرة الأهم لتطوير العمل في تعزيز الصحة والصحة العامة في السعودية خلال العقدين الأخيرين.
وقد يتبادر لدى بعض القراء تساؤل عن مدى أهمية إنشاء مركز وطني، يهدف لتعزيز الصحة في المجتمع والوقاية من الأمراض؟ ولتبسيط الإجابة عن ذلك أحيلكم إلى أحد تقارير منظمة الصحة العالمية، الذي يشير إلى أنه إذا تيسر القضاء على عوامل خطورة الإصابة بالأمراض المزمنة من خلال برامج تعزيز الصحة المتكاملة فيمكن - بإذن الله - توقي 80 % من حالات الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية وداء السكري (النمط الثاني)، وتوقي ما يزيد على 40 % من حالات السرطان. وفي المقابل، فقد استطاعت فنلندا خفض نسبة الوفيات نتيجة أمراض القلب الوعائية إلى 75 % خلال ما يقارب ثلاثين سنة، وذلك عن طريق تدخلات وطنية لتعزيز الصحة.
أما ميثاق بانكوك العالمي لتعزيز الصحة، الذي عُقد تحت اسم "تعزيز الصحة في عالم تسوده العولمة"، فقد طالب الحكومات بوضع تعزيز الصحة بوصفه مسؤولية أساسية لها، وتقديم التمويل المستدام له؛ كون الصحة محدداً رئيسياً من محددات التنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، وأكد بوضوح أن السياسات والشراكات الرامية إلى تحسين الصحة وتمكين المجتمعات ينبغي أن تكون في صميم التنمية الوطنية.
كما تشير المنظمة إلى أن تعزيز الصحة يتسم بالفعالية والمردودية في تقليص عبء المراضة، وفي التخفيف من وطأة الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الأمراض. ومن المعلوم أن تبني تعزيز الصحة على المستوى الوطني يُسهم في خفض التكلفة العلاجية لميزانية وزارة الصحة على المدى البعيد.
بالمختصر المفيد: الوقاية قوة يجب الاستثمار فيها، ومن هنا تبرز أهمية إنشاء مركز وطني يهدف إلى تعزيز الصحة والحد من الأمراض والوقاية منها، ويتفرغ لرصدها ومراقبتها، وصنع السياسات والبرامج والاستراتيجيات الوطنية لمواجهتها، والتنسيق والشراكة بين القطاعات على المستوى الوطني.
وفي المقابل، سيكتنف العمل في المركز العديد من التحديات التي من المفترض على وزارة الصحة الصمود أمامها وتجاوزها بكل عزيمة وإصرار، فضلاً عن الاستفادة من الدروس المستقاة من تجربتها الحالية في مجال تعزيز الصحة والوقاية.
ولعل من أهم تلك التحديات وضع الخطة الاستراتيجية له، وخصوصاً في ظل محدودية الكفاءات الوطنية وندرتها في مجال الصحة العامة وتعزيز الصحة؛ وهو ما يستدعي صنع شراكات استراتيجية مع المنظمات والمراكز العالمية في هذا الجانب، أذكر منها - على سبيل المثال - مراكز السيطرة على الأمراض الأمريكية، وكلية الصحة العامة بجونزهوبكنز، والاتحاد الدولي لتعزيز الصحة والتربية الصحية (IUHPE)، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي للوقاية والسيطرة على الأمراض، فضلاً عن منظمة الصحة العالمية. وأرى أنه من المناسب أن يوكل الأمر في وضع الخطة الاستراتيجية وصنع تلك الشراكات إلى بيوت خبرة عالمية متخصصة في التطوير الإداري كشركة مكينزي، أو بووز أند كو، أو بي دبليو سي.
والتحدي الآخر الذي سيواجه إنشاء المركز يتعلق بتوفير الكوادر المتخصصة، وهنا أتمنى ألا تتوانى وزارة الصحة في استقطاب كفاءات وخبرات عالمية متفرغة للعمل في المركز من دول متقدمة في مجال تعزيز الصحة والصحة العامة كالولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، وبالطبع سيكون لذلك تكلفة عالية، ولكن لا ضير في ذلك مطلقاً؛ فنحن نستثمر في تعزيز صحة المجتمع وفي "قوة الوقاية". وكما تصرف الوزارة المليارات في إنشاء البنية التحتية للخدمات العلاجية فهي أيضاً مطالَبة بالاستثمار بشكل فعال في تطوير البنية التحتية لتعزيز الصحة. ولا شك، فالمركز مطالَب أيضاً بالاستثمار في بناء القدرات وتطوير كفاءات وطنية، تستطيع المساهمة في قيادة دفة المركز بمهنية عالية.
ومن أهم التحديات التي ستواجه المركز جوانب الشراكة والتعاون مع القطاعات الأخرى، سواء الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني أو الخاص، في ظل تشتت العديد من الجهود والازدواجية في تلك القطاعات. ولعل من أنسب ما يمكن أن يقوم به المركز في هذا الجانب إنشاء مجلس وطني لتعزيز الصحة، يساعد على توحيد الجهود وتنسيق الصلاحيات والمهام والحد من الازدواجية. ولا ننسَ أيضاً أهمية التعاون مع المراكز البحثية والأكاديمية لتعزيز دوره في مجال الأبحاث والدراسات ذات العلاقة.
كما يبرز التحدي الآخر للمركز في قدرته على صنع سياسات وتشريعات، تُسهم في تعزيز الصحة لدى القطاعات الأخرى التي لا تدخل ضمن السيطرة المباشرة للوزارة. وعلى سبيل المثال التشريعات المتعلقة بتحديد نسبة الدهون والأملاح والسعرات الحرارية في أطعمة الوجبات السريعة، أو منع الإعلانات للأطعمة غير الصحية الموجهة للأطفال، ووضع ضرائب على بعض الأطعمة غير الصحية كالمشروبات الغازية السكرية، فضلاً عن التشريعات المتعلقة بتوفير البيئة الصحية في المدن. وهنا يأتي دور المركز فيما نسميه باستراتيجية صنع التأييد (Advocacy Building) لقضايا تعزيز الصحة على مستوى القيادات وصانعي السياسات في القطاعات الأخرى.
والمؤسف أن مهام المركز المنصوص عليها في قرار مجلس الوزراء خلت من جانب في غاية الأهمية، يتعلق بالوقاية من الإصابات والإعاقات، وهو ما يفترض من وزارة الصحة العمل عليه، والسعي لإضافته لمهام المركز، بوصفه مكوناً رئيساً، وخصوصاً في ظل الانتشار الواسع للحوادث المرورية والإعاقات الناجمة عنها.
أخيراً، كلي أمل أن يتسنّم هذا المركز دور القيادة نحو تعزيز صحة مجتمعنا، خاصة أن مجال تعزيز الصحة والصحة العامة شهد تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الخمس الأخيرة في الوزارة، وتُخصَّص له ميزانيات غير مسبوقة في تاريخها. كما أنني متفائل؛ كون قرار مجلس الوزراء أشار إلى ارتباط المركز المباشر بوزير الصحة، أو من ينيبه، مع توفير ميزانية مستقلة له، وكذلك وظائف خاصة به، وتلك مواطن قوة، يمكن أن تدعم مسيرة المركز بفعالية إذا ما أُحسن استثمارها.
http://sabq.org/9i1aCd