شاب قريب لي، تخرَّج في جامعة الملك سعود؛ فسألني إلى أين يتجه؟ فقلت له: بما أن تخصصك اقتصاد فعليك بأن تتجه للقطاع الخاص، وبخاصة البنوك. وفعلاً بدأ قبل ست سنوات، وأخذ بنصائحي التي ترتكز على أنه شاب وصغير في السن، وإذا أراد أن يكون شيئاً مميزاً، ويريح نفسه وأسرته إذا تزوج وكبرت أسرته وتقدم في السن، فعليه بالجد والاجتهاد والانضباط، وأن ينام مبكراً، ويصحو مبكراً، ويأتي للعمل أول الناس، ويخرج آخر الناس، وأن يطوِّر لغته الإنجليزية وبرامج الحاسب الآلي، وأن يكون مطيعاً لرؤسائه صبوراً جاداً حليماً أميناً ملتزماً بقيم وأخلاقيات العمل، وأن يحرص على الدورات، وأن يكون حسن التعامل ومبتسماً وذا سمعة جيدة مع العملاء والزملاء، وأن يكون متعاوناً يساعد أي زميل في عمله إذا أراد منه شيئاً ومتسامحاً مع مشاكل العمل وضغوطاته، وأن يتخلص تماماً من أي التزامات وسهرات و"جمعات" مع الزملاء عدا الخميس والجمعة، وأن يقتصر في علاقاته أيام الأسبوع على ما تحتاج إليه أسرته الصغيرة إذا تزوج والوالدان والأقارب المقربون؛ حيث يكون الوقت الزائد أيام الأسبوع لتطوير الذات والتسلية المتزنة وممارسة الرياضة لتحسين لياقته الصحية والراحة؛ حتى يُعِدَّ نفسه جيداً للعمل. أما نهاية الأسبوع فيمارس فيها هواياته مع أصدقائه، ويستمتع بها؛ حتى يجهّز نفسه للعمل. وفعلاً التحق بالقطاع الخاص، وتقيد بالتعليمات، وصبر، وتميز حتى أمضى فيه ست سنوات، تطور في عمله، ولكن كعادة البنوك وقلة الرقابة عليها وضعف الحوافز والشراسة في الضغط على الشباب، وكذلك تحفظات بعض الأقارب على العمل في البنك، توجه للخدمة المدنية، والتحق بوظيفة حكومية في جهة حكومية، تُعتبر من أفضل الجهات في انضباطية الدوام.. ولكن - واااااه من لكن هذه - لأن الشاب بدأ بأسلوبه نفسه في العمل إنجازاً وتميزاً وسرعة ودقة في الأداء صُدم من بيئة العمل الحكومية وضياع الوقت في الأحاديث الخارجة عن نطاق العمل وعدم وجود الجدية في الأمر، وشاورني فقلت: استمر، سيأتي الفرج بإذن الله. لكن الذي حدث أدهى وأمرّ؛ إذ استدعاه رئيسه في العمل، وجامله، وأثنى على عمله، ولكن طلب منه الهدوء والبطء، وأنه لا داعي للعجلة، وأنه لا لزوم لإنجاز المعاملة في ساعتين أو ثلاث بل أسبوعين أو ثلاثة! صُدم، وتألم، ووجد أن الأمر محبط جداً؛ فكان أن تواصل مع رؤسائه السابقين في البنك الذين شعروا بأهميته، وظلوا يبحثون عنه، وكان اتصاله في محله؛ حيث قدموا له عرضاً مغرياً جداً لإدارة أهم وأكبر الفروع في العاصمة، وكان بحاجة له، ليس للمميزات الكبرى فيه بل للعمل بطريقته وأسلوبه؛ حيث سيموت إدارياً في القطاعات الحكومية؛ لأن بعضها يحتاج إلى تطوير الأداء.
تحدث إلى رئيسه الحكومي فوافق، وقال: خذ إجازة لمدة سنة من دون راتب، وجرب نفسك. فوافق وهو في قرارة نفسه أنه لن يعود للعمل الحكومي بعدما شاهده من رتابة وروتين وقلة في الإنجاز والعمل. سألته بعد أشهر في عمله الجديد، فقال: لقد وجدت نفسي وجهدي، وصبري لم يذهب سدى، والبنك عرف قيمتي بعد أن تركته، وهناك عروض أخرى جيدة. قلت: الآن اصبر واعمل وجهّز نفسك للمرحلة القادمة، ومهما كانت الإغراءات استمر في عملك لمدة زمنية لا تقل عن سبع سنوات، فإن تحسّن وضعك وإلا انتقل لبيئة عمل ستدخل فيها مرحلة قيادية مهمة. وفَّقك الله وزادك نجاحاً وتميزاً.
http://sabq.org/be1aCd