لماذا اختفى "درواس"؟!

النقاشات الإعلامية والمقالات السياسية هذه الأيام غالباً ما تبدو مكرورة وجامدة، ويطغى عليها نوع من الرتابة والملل، لكن الاستشهادات التاريخية أو القراءات المتعمقة للأحداث تضفي طابعاً جدياً ومقنعاً للمتابعين، فالأزمات المتلاحقة في البلدان العربية نتيجة الثورات الأخيرة ألهمت العديد من الجهلاء والعارفين أحكاماً أولية، ليست بالضرورة أن تكون سليمة، سواء اتفقت مع هذا الربيع أو اختلفت معه، والدراما السياسية التراجيدية التي طغت على المسرح العربي خلال العامين المنصرمين لم تكشف إلا جزءاً من الحدث المهول، والواقع المرير؛ فالأرقام المرعبة التي تصل إلى عشرات الآلاف من القتلى في مذابح جماعية وفردية، والجماجم التي سُحقت تحت الأرجل الغليظة والفوهات المدفعية، والأجساد التي سُحلت، وطار بعضها أشلاء ً، جعلت هذه الدماء خسارة جسيمة لهذه الأوطان المتداعية، ما كان ينبغي لها أن تُهدر بهذه الطريقة.

أوطان عربية تئن في مخاضٍ تاريخيٍ عصيب، ترقّب معي المشهد: حكّام خرجت أغلبية شعوبهم لا تريدهم في السلطة، وهم لا يزالون باقين، وآخرون صوتت لهم الأغلبية، ومع ذلك قد يرحلون، وفي السلسلة آخرون تخلصت منهم شعوبهم بالحرق والقتل، ولا تزال أوضاعهم مضطربة، لا تستقر على حال، كأن ريحاً تحركها تجاه اليمين والشمال، أغلبية صامتة تريد العيش بسلام، أقلية بسيطة تتحكم في مصائرهم وتخرق وحدتهم، والسفينة تترنح، وقد تغرق إذا لم يأخذوا بأيديهم وإعلامِهم، شرفاء ينشدون السلام ويختلفون.. كيف؟! حكماء في بلدانهم لا يستمع إليهم أحد وسط هذا الضجيج.. لماذا؟!

في الشأن الاجتماعي أوضاع الفقر والجريمة تنزلق إلى معدلات عالية، آلاف تركت أعمالها، مواطنون فقدوا أرجلهم التي يمشون بها، آخرون فقدوا عقولهم التي يبصرون بها، والهاوية تتسع للجميع، وأثرياء العرب الذين أنعم الله عليهم بالأمن والمال عجزوا عن أن يستروا إخوانهم من لباس الخوف والجوع.. مواقف مترددة، وأقوال متناقضة، روابط الدين واللغة والتاريخ والدم موجودة في دساتير حكامهم، ومناهج طلابهم، لكنها وثائق شرف "خانها" التطبيق؛ لذلك فهي فاقدة لقيمتها العملية، ويتبدى لنا عبدالله البردوني واصفاً الحالة:
"لماذا لي الجوع والقصف لك؟ يناشدني الجوع أن أسألك
لماذا؟ وفي قبضتيك الكنوز تمدّ إلى لقمتي أنملك
وتقتات جوعي وتدعى النزيه وهل أصبح اللّصّ يوماً ملك؟"
الشعوب تريد أن تمنح أموالها للمسحوقين فلا يتاح لها ذلك، مليارات فاضت بها خزائن سويسرا وبنوكها، وأخرى في بلدانها الأصلية تحفظها حكوماتهم وأثرياؤهم لليوم الأسود، وجاءت أيام سوداء كثيرة، ولم تظهر صدقةً، أو تطهر زكاةً، وغاب منطق "درواس" حين اختفت عدالة "هشام". والتاريخ لا يعيد نفسه مرة أخرى، لكن القصة مبثوثة في كتب التراث، حينما أصابت مجاعة إحدى بوادي الشام، فخرج القوم صغيرهم وكبيرهم باتجاه خليفتهم هشام بن عبدالملك، معلنين ثورة الجياع السلمية، فقدّموا أفصحهم، وكان فتى يقال له "درواس"، لم يطر شاربه بعد، فقال في كلماتٍ تاريخية بسيطة موجهاً كلامه للخليفة: "لقد أصابتنا ثلاث سنين؛ فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقّت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، إن كانت لله ففرّقوها على عباد الله المستحقين، وإن كانت لعباد الله فعلام تحبسونها عنهم؟! وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين". ومع ذلك فإن هذا الخليفة لم يأمر بسجن هذا الفتى "الخارج عن القانون" بلغة هذا الزمان، أو معاقبة أقاربه كما فعل بشار الأسد مع أطفال درعا وذويهم، كل ما صنعه معهم هو تفريق مائة ألف درهم من بيت المال لباديتهم الفقيرة، عسى أن تنقذ رقبته من النار، عسى ولعل.



http://sabq.org/Jd1aCd